خاص - شبكة قُدس: شكّلت الغارة الجوية قرب القصر الرئاسي في دمشق يوم أمس تحوّلا رمزيا وميدانيا كبيرا في استهداف "إسرائيل" للحكومة السورية الجديدة، وهذه المرة بذريعة حماية الطائفة الدرزية. واعتبر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أن هذه الضربة "رسالة واضحة" للنظام السوري بعدم السماح بوجود عسكري سوري جنوب دمشق، مهدداً بالرد بقوة على أي تهديد للطائفة الدرزية.
سبق ذلك بيومين، استهداف عناصر أمنية سورية، حيث شنت "إسرائيل" غارة بطائرة مسيّرة استهدفت مجموعة من الأمن العام السوري في منطقة صحنايا جنوب دمشق، استشهد فيها عنصر وأصيب آخرون. وبالتزامن أطلقت تصريحات رسمية التحذيرية من جانب الاحتلال الإسرائيلي، وتأكيد من نتنياهو ووزير حربه يسرائيل كاتس أن الضربة الجوية قرب القصر الجمهوري كانت "عملية تحذيرية" موجهة للنظام السوري، مدّعين أن "إسرائيل" لن تسمح بأي تهديد للطائفة الدرزية في سوريا.
وكشفت تقارير عبرية عن إجلاء جرحى دروز إلى الداخل الفلسطيني المحتل، وقد أعلنت "إسرائيل" عن إجلاء ثلاثة مواطنين سوريين دروز لتلقي العلاج الطبي، يضاف إلى ذلك، إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي عن انتشاره في جنوب سوريا، مشيراً إلى جاهزيته لمنع دخول "قوات معادية" إلى المناطق الدرزية، مما يعكس تصعيداً في التدخل العسكري الإسرائيلي في الشأن السوري.
تعدّ هذه التحركات من قبل كيان الاحتلال تجسيدا لرؤيته في علاقته مع الأقليات في الشرق الأوسط والتي تعتبر من أبرز محاور سياسته الإقليمية، وتشكل أداة استراتيجية ضمن عقيدته الأمنية منذ تأسيسه. فقد نظر مؤسس كيان الاحتلال دافيد بن غوريون إلى الأقليات في الشرق الأوسط مثل الدروز، الأكراد، والمسيحيين، كحلفاء محتملين للاحتلال في مواجهة الأغلبية العربية السنية، وقد دعم إقامة تحالفات مع الأقليات لإيجاد توازن إقليمي في وجه العداء العربي العام.
لكن السؤال الذي يستحضره كثيرون، في ظل الانفلات والتوحش الإسرائيليين، هل تقدم "إسرائيل" على خطوة كبيرة مثل اغتيال الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي استهدفت محيط القصر الذي يتواجد فيه؟!. إن الإجابة على هذا السؤال تحيلنا إلى عدة أهداف تكتيكية وأخرى استراتيجية لهذا التدخل الإسرائيلي، كنا قد أشرنا إلى إحداها والتي تتعلق بنظرة "إسرائيل" الاستراتيجية للأقليات، ولكن هناك أهداف تتعلق بالمرحلة التاريخية التي تمرّ فيها المنطقة.
يمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن "إسرائيل" تحاول "تهدئة" الطائفة الدرزية في الداخل الفلسطيني من خلال تدخلها العلني في الأزمة السورية، خاصة في ظل تصاعد الغضب الدرزي من سياسات حكومة الاحتلال تجاه الدروز والتي كان آخرها رفض أي تعديلات على قانون البناء أو ما يعرف بقانون "كمينيتس" وإقرار قانون القومية عام 2018 والذي ولّد مشاعر غضب تجاه الاحتلال واعتبره الدروز طعنة لهم في الظهر رغم ولائهم لـ"إسرائيل".
لقد وجد الدروز في الداخل المحتل في الأزمة الجارية في سوريا مدخلا للدخول في موجة احتجاجات ضد حكومة الاحتلال تحت شعار "إذا لم تقم الدولة بحماية إخوتنا، سنقوم نحن بذلك". يهدد هذا الخطاب منظومة السيطرة والضبط الإسرائيلية على الدروز، وبالتالي فإن تدخلها في سوريا جاء لإعادة ضبط الحالة الدرزية كي لا تتصرف كظاهرة قائمة بحد ذاتها بل كجزء من النظام "الإسرائيلي"، وفي الوقت ذاته يحقق هذا التدخل لـ"إسرائيل" هدف استرضاء الدروز الذين ينظرون لأنفسهم كطائفة ذات خصوصية روحية واحدة رغم الحدود الجغرافية التي تفصل بين أبنائها.
الهدف الآخر من التدخل الإسرائيلي هو التأكيد على روايتها بأن النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع هو نظام "إرهابي" يتبنى أجندة دينية "متطرفة"، وهذه الرواية هدفها تبرير تدخلها العسكري المتكرر في سوريا بهدف منع استعادة الدولة السورية لقوتها. كما وتسعى "إسرائيل" لإبقاء سوريا في حالة من الفوضى والتشظي، عبر نزع الشرعية عن النظام الجديد.
أظهرت تقارير إعلامية أن "إسرائيل" تبذل جهودًا دبلوماسية مكثفة لإقناع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بأن أحمد الشرع، رغم كل محاولاته لطمأنة "إسرائيل" وتهدئة مخاوفها، يشكل تهديدًا إرهابيًا. تستند هذه الجهود إلى ماضي الشرع كقائد لجبهة النصرة، المرتبطة سابقًا بتنظيم القاعدة، وإلى تصنيفه من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2013 كـ"إرهابي عالمي"، والهدف كما أشير سابقا هو إبقاء سوريا تحت الوصاية الأمنية الإسرائيلية بحجة المصالح الأمنية الإسرائيلية وشرعنة كل سلوك عسكري متمثل بهجمات جوية أو سيطرة على الأرض.
رغم التصعيد الإسرائيلي ضد أحمد الشرع في الخطاب والممارسة، تدرك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن اغتياله قد يفتح الباب أمام فوضى لا يمكن احتواؤها على حدودها الشمالية، خصوصًا في ظل تصاعد قوة الفصائل السنية المسلحة في الجنوب السوري.الشرع، من موقعه القيادي، يمتلك قدرة ملموسة على ضبط سلوك هذه الفصائل ومنعها من استهداف "إسرائيل"، إما عبر قنوات تنسيق غير مباشرة أو من خلال نفوذه الأيديولوجي والتنظيمي.
لذلك، لا تميل "إسرائيل" إلى خيار تصفيته الجسدية، بل تسعى بدلاً من ذلك إلى احتوائه سياسيًا وإبقائه في موقع ضعيف. فهي تعمل على منعه من تحقيق اعتراف دولي أو تعزيز سلطته في دمشق، وتفضل بقاءه رئيسًا هشًا على رأس دولة منقسمة ومفككة، لا تشكّل تهديدًا جديًا. هذه المقاربة الإسرائيلية تندرج ضمن استراتيجيتها الأوسع: إبقاء سوريا ساحة مفتوحة للصراعات الطائفية والسياسية، دون السماح بقيام نظام قوي وموحّد قد يعيد تشكيل التهديد التقليدي من الجبهة الشمالية.
يمكن الإشارة في الختام إلى أن أحد أسباب هذا التدخل هو ابتزاز الرئيس السوري أحمد الشرع سياسياً وأمنياً، ودفعه إلى تقديم المزيد من التعهدات للعالم التي تضمن أمن حدودها الشمالية وهو ما أشار له هو ووزير خارجيته، فضلاً عن مطالبته بالتضييق على نشاط الفصائل الفلسطينية في سوريا، وقطع أي صلة لها بالعمل المقاوم، وهو ما بدأ به بالفعل. كما تتقاطع هذه الضغوط مع مساعٍ إسرائيلية لضمان بقاء النظام الجديد ضعيفاً سياسياً، وقابلاً للانخراط في ترتيبات إقليمية لا تتعارض مع مصالح الاحتلال. لن تقدّم "إسرائيل" للشرع شيئًا مقابل مواقفه، لكنها ستبقيه في دائرة الابتزاز اللانهائي.